إعصار التكنولوجيا


لقد كان خريجو جامعة دمشق على مر العقود على مستوى عالٍ من المسؤولية... جِداً واجتهاداً... وقبل كل ذلك أخلاقاً حميدة. كان خريج جامعة دمشق يلقى، أو كما يقال، يعاني الأمرين ليحصل على شهادتها... سهر ليالٍ بصحبة الكتاب، وقضاء الساعات الطويلة كل يوم في قاعات المحاضرات وبين جدران المخابر، ثم على طاولات الامتحان وبكل اقتدار.
هكذا هم طلاب جامعة دمشق النجباء... والمعول عليهم وعلى أمثالهم من خريجي الجامعات السورية الأخرى رفع راية البلاد، وعلى أكتافهم ستبنى وترتقي الأمجاد.
لكن المجتهدين يشذ عنهم أحياناً بعض ضعاف النفوس الذين يستسهلون طريق النجاح أو الوصول إلى الغايات عن طريق الغش في الامتحان... إنما يبقى سلوكهم مصنفاً كحالات فردية استثنائية طالما كانت وسائل الغش التي يتبعونها وسائل تقليدية وبدائية، كالاستعانة بقصاصة ورقية مكتوب عليها الإجابات، أو الكتابة على المقعد الامتحاني، أو حتى النقل المتبادل بين الطلاب. وتصنف مثل هذه الظواهر الشاذة ضمن الحالة الطبيعية في حياة الجامعات، وهي لا تشغل البال كثيراً على اعتبار أنها حالات فردية، حيث تقوم لجنة متخصصة (لجنة الانضباط) بمعالجتها.
ثم أتى عصر الهاتف المحمول الذي أصبح يحمل إلينا كل يوم العديد من التقنيات الآخذة في التطور بشكل لا يتصوره عقل. لقد جاء هذا الجهاز ليعصف بالامتحانات الجامعية وغير الجامعية كالإعصار المدمر، وأخذت تقنياته تجوب قاعات الامتحان بحرفية عالية، مباشرة لإرسال صورة عن الأسئلة الامتحانية، ثم كوسيلة اتصال للغش أثناء الامتحان، فتنقلب مع هذه التجربة المؤسفة موازين العدالة فيصبح اللص قاضياً والجاهل أديباً والمدعي إماماً.
وقد اكتشفت إدارة الجامعة تداول رقاقة بالغة في الصغر تلصق على غشاء طبلة الأذن قبل الامتحان، يلصقها طبعاً طبيب متخصص، فتصل المعلومات للطالب المتورط بكل سهولة ويسر من خلال استقبال أشعة ما يعرف بـ (البلوتوث) بعملية تديرها شبكة من لصوص العلم المنتشرين خارج أروقة الجامعة، ويتقاضون لأجلها آلاف الليرات.
ولعله من المؤسف في الأمر أن الجامعة ومهما بلغت قدرتها على مكافحة الغش الامتحاني يصعب عليها تقنياً كبح جماح مثل هذه الوسائل، الأمر الذي استدعى مجلس الجامعة اتخاذ إجراءات احترازية يصون من خلالها عملية الامتحان من عبث العابثين، وهو الفصل النهائي من الجامعة لأي طالب يستخدم الهاتف المحمول على اختلاف أدواته.
وتحسباً لمن قد يفلت من ضبطه متلبساً أثناء الامتحان سعت الجامعة للتعميم على جميع أعضاء الهيئة التدريسية لتحري الدقة أثناء تصحيح الأوراق الامتحانية، وإعلام الجامعة بأية شبهة لنقل حرفي من المادة العلمية... وعليه فإن الطلاب المشتبه باستخدامهم هذه التقنية لن يفلتوا من العقاب، وسيلقون النتيجة نفسها حتى ولم يضبطوا أثناء الامتحان، طبعاً بعد تأكد لجنة الانضباط من ذلك.
جامعة دمشق لن تكون سعيدة أبداً عندما تضبط عشرات الحالات من الغش عبر الهاتف المحمول، وسيؤلمها فصل أعداد كبيرة من الطلاب فصلاً نهائياً، فذلك ليس بالأمر السهل عليها... لكنها في الوقت نفسه ستبقى حريصة كل الحرص على سمعتها، ولن تسمح لمن تسول له نفسه الالتفاف على طريق الاجتهاد، أو سلوك وسائل اللصوصية في طلب العلم.
هي رسالة للجميع وخاصة لطلابنا الأعزاء، فالرعونة ستقضي لا محالة على مستقبلهم... وليفكروا كثيراً قبل سلوكهم سبيل عصابات التكنولوجيا الذين يسرقون الأموال ويدمرون الوطن في الوقت نفسه.



عداد الزوار / 801239792 /